***
خلق الله -عز وجل- الإنسان من أجل وظيفتين اثنتين؛ الأولى هي عبادة الله –سبحانه وتعالى- "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، فهو الخالق المصور، وهو الذي صورنا فأبدع تصويرنا، وخلقنا في أحسن تقويم، ثم وهبنا ما وهب من نعم لا تعد ولا تحصى.
أما الثانية، فهي تعمير الأرض "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"، وخلافة الله في أرضه وتعميرها لن يستقيم ولن يحدث إلا من خلال حسن المعاملة بين الإنسان وأخيه الإنسان.
ونحن نتحدث اليوم عن واحد من أهم الأخلاق التي لابد لكل إنسان أن يتصف بها راغبا في أن يحسن معاملة أخيه. نتحدث عن خلق، ما أجمله من خلق، وما أصعب أن يلتزم به الإنسان فيكون واحدا من سماته التي لا تفارقه أبدا، ويكون نعم الرفيق، ونعم الصاحب الذي لا يضل صاحبه أبدا..
خلقنا الذي نتحدث عنه اليوم هو خلق التسامح..
ولقد ضرب الله سبحانه وتعالى لنا في ذاته -عز شأنه- المثل الأعلى، وكيف لا وهو الغفار التواب، الرحمن الرحيم؟
ألم تسمع بقصة الرجل من بني إسرائيل الذي عصى الله ما شاء أن يعصي فلما جاءه الموت أمر أولاده بأن يحرقوا جثته بعد موته ثم يسحقونها ثم ينثرونها على رءوس الجبال، وكان يقول: "لو قدر عليّ ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحد من العالمين"..
وفعل به أولاده ما أمرهم به فقال الله عز وجل: "كن"، فكان فقال له: "ما حملك على ما صنعت؟"، فقال: "خفتك وخفت ذنوبي"، فقال الله: " بمخافتك إياي غفرت لك وأشهدكم يا ملائكتي أني غفرت له وأدخلته الجنة"..
ألم تسمع أيضا أن قحطا شديدا حدث في عهد "موسى" عليه السلام فكاد الناس يموتون وتهلك البهائم فطلب بني إسرائيل وكانوا 170 ألفا وظل يدعو ويلح على الله ولم ينزل المطر فقال "موسى": "يارب.. عودتني الإجابة ونحن ندعوك ونتذلل إليك"، فقال الله: "يا موسى بينكم رجل يعصيني 40 سنة فبشؤم المعصية منعتم المطر من السماء، فقال "موسى": "يا رب فماذا نفعل؟" قال: "يا موسى أخرجوه من بينكم فإنه إذا خرج من بينكم هذا العاصي نزل المطر"، فوقف "موسى" في بني إسرائيل يقول لهم: "أستحلفكم بالله.. أقسمت عليكم بيننا رجل يعصي الله 40 سنة فليخرج من بيننا، فلن ينزل المطر حتى يخرج"..
وكان هذا الرجل وسطهم وظل يلتفت يمينا وشمالا لعل أحدا آخر يخرج فلم يخرج أحد، فعرف أنه هو، فقال: "يا رب أعصيك منذ 40 سنة وأنت تسترني.. يا رب أنا اليوم إن خرجت فضحت وإن بقيت هلكنا ولم ينزل المطر.. يا رب أنا اليوم أتوب وأندم وأعود إليك، فتب عليّ واسترني"، فنزل المطر، فقال "موسى": "يا رب نزل المطر ولم يخرج أحد"، فقال الله: "يا موسى نزل المطر بتوبة عبدي الذي عصاني منذ 40 سنة"، فقال: "يارب فدلني عليه لأفرح به"، فقال الله: "يا موسى عصاني 40 سنة وأستره، ويوم يعود لي أفضحه".
ما أعظمه، وما أحلاه من خلق!! إنه سمة من يقدر فهو القادر المقتدر، ومن يستطيع أن يقهر فهو القهار، وأن ينتقم فهو المنتقم، وأن يذل، فهو المذل، ولكنه يأبى أن يفعل ذلك، مفضلا أن يغفر لعباده فهو الغفار، وأن يصبر عليهم فهو الصبور، وأن يتوب عليهم، فهو التواب.. ما أعظمك يا ربي!!
وهنا تكمن الصعوبة أمامك أيها الإنسان الضعيف، فأين أنت من قوة وقدرة الخالق لتملك أن تسامح وأن تعفو وأن تصفح وأن تغفر، ولكن أليس ذلك دافعا لك وأنت الضعيف الفقير أن تقتدي بالقوي الغني، من أقوى من الله ومن أغنى من رب كل غني؟
ثم تأتي صعوبة أخرى وهي أن التسامح يبدو مخالفا لشهوة يحبها الإنسان، فكل منا تحدثه نفسه ويأخذه كبره لأن يشتم هذا ويبطش بهذا، فيشعر وقتها بنشوة غير معلومة السبب. ومنا من يعود فيندم على ما فعل، ومنا من يغالبه كبره فيزداد بطشا على بطش، وقسوة على قسوة.
لهذا –يا أخي ويا أختي- فعلينا أن نغالب شهوتنا، ونهزم أنفسنا، ناظرين إلى ما وصف نبينا –صلى الله عليه وسلم- نفسه به حين قال: "أنا الرحمة المهداة".. صدقت يا حبيبي يا رسول الله.
ولنضع أمامنا رغبتنا في أن نكون من أهل الجنة التي أعدت للمتقين الذين تحدث عنهم الله عز وجل في كتابه الكريم إذ قال: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين".
وفي الأثر أنه إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم أهل الفضل، فيقوم اُناس من الناس فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنّة، فتتلقّاهم الملائكة فيقولون لهم إلى أين؟ فيقولون لهم إلى الجنة، قالوا: قبل الحساب؟ قالوا: نعم، قالوا: ومَن أنتم؟ قالوا: نحن أهل الفضل، قالوا: وما كان فضلكم؟ قالوا: كنّا إذا جهل علينا حلمنا وإذ أسيء إلينا غفرنا، قالوا: ادخلوا الجنّة فنِعمَ أجر العاملين.
ونحن إذا نظرنا إلى حياتنا سنجد أن 90% من مشكلاتنا في بيوتنا ومجتمعاتنا تتعلق بالأساس بالتسامح، لكننا نجد من يقول: "لا.. ماهو أنا لو اتنازلت عن حقي الناس هتفكر إني ضعيف".. كلا والله فإن التسامح ليس إذلالا للنفس وإنما هو منتهى القوة، وهو منتهى القدرة، فكن متسامحا عفوا تكن عند الله في مصاف الأقوياء القادرين، "ومن عفا وأصلح فأجره على الله".
أهناك ما هو أفضل من ذلك؟ أن يكون أجرك على الله.. وهو نعم المولى ونعم النصير.. فلتوجه إلى الله بالدعاء بأن نكون ممن أجرهم عليه.. اللهم آمين..
منقول من موقع بص وطل